فصل: يوم الجمعة ثامن عشرين شهر ربيع الآخر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


ثم في يوم الخميس رابع عشر شهر ربيع الأول قدم الأمير قصروه من تمراز نائب طرابلس وطلع إلى القلعة وقبل الأرض وخلع السلطان عليه خلعة الاستمرار بولايته على عادته‏.‏

ثم في يوم السبت قدم هديته إلى السلطان وكانت تشتمل على شيء كثير‏.‏

وفي يوم الخميس المذكور وصل إلى القاهرة الأمير يربغا التنمي أحد أمراء العشرات عائدًا من بلاد اليمن بغير طائل‏.‏

وسببه أن السلطان كان أطمعه بعض الناس في أخد اليمن وهون عليه أمرها وهو كما قيل غير أن الملك الأشرف لم يلتفت إلى ذلك بالكلية تكذيبًا للقائل له فأرسل الأمير يربغا هذا بهدية لصاحب اليمن وصحبته السيفي ألطنبغا فرنج الدمرداشي والي دمياط كان ومعهما أيضًا خمسون مملوكًا من المماليك السلطانية فساروا إلى جدة ثم ركبوا منها البحر وتوجهوا إلى جهة اليمن إلى أن وصلوا حلي بني يعقوب فسار منه يربغا التنمي ومعه من المماليك خمسة نفر لا غير ومعه الهدية والكتاب لصاحب اليمن وهو يتضمن طلب مال للإعانة على الجهاد‏.‏

وأقام ألطنبغا فرنج ببقية المماليك في المراكب فأكرم صاحب اليمن يربغا المذكور وأخذ تجهيز هدية عظيمة‏.‏

وبينما هو في ذلك قدم عليه الخبر بأن ألطنبغا فرنج نهب بعض الضياع وقتل أربعة رجال فأنكر صاحب اليمن أمرهم وتنبه لهم وقال للأمير يربغا‏:‏ ما هذا خبر خير فإن العادة لا يحضر إلينا في الرسالة إلا واحد وأنتم حضرتم في خمسين رجلًا ولم يحضر إلي منكم إلا أنت في خمسة نفر وتأخر باقيكم وقتلوا من رجالي أربعة ثم طرده عنه من غير أن يجهز هدية ولا وصله بشيء ولولا خشية العاقبة لقتله فنجا يربغا بمن معه بأنفسهم وعادوا إلى مكة وقدم يربغا إلى القاهرة مخفًا‏.‏

فلما بلغ السلطان ذلك أراد أن يجهز إلى اليمن عسكرًا فمنعه من ذلك شغله بغزو الفرنج‏.‏

ثم في يوم السبت أول شهر ربيع الآخر خلع السلطان على الأمير قصروه خلعة السفر وخرج من يومه إلى محل كفالته بطرابلس‏.‏

ئم في يوم السبت ثامنه خلع السلطان على الأمير يشبك الساقي الأعرج واستقر أمير سلاح عوضًا عن إينال النوروزي بحكم موته‏.‏

ثم في خامس عشرين شهر ربيع الآخر المذكور استقر العلامة كمال الدين محمد ابن همام الدين محمد السيواسي الأصل الحنفي في مشيخة التصوف بالمدرسة الأشرفية وتدريسها عوضًا عن العلامة علاء الدين علي الرومي بحكم رغبته وعوده إلى بلاده‏.‏

ثم في يوم الخميس سابع عشرينه خلع السلطان على القاضي بدر الدين محمود العينتابي باستقراره قاضي قضاة الحنفية بالديار المصرية عوضًا عن زين الدين عبد الرحمن التفهني واستقر التفهني المذكور في مشيخة صوفية خانقاه شيخون بعد موت شيخ الإسلام سراج الدين عمر قارىء الهداية‏.‏

وفي

 يوم الجمعة ثامن عشرين شهر ربيع الآخر

المذكور نزل من القلعة جماعة كبيرة من الأمراء والمماليك وهم متقلدون بسيوفهم حتى طرقوا الجودرية إحدى حارات القاهرة فأحاطوا بها مع جميع جهاتها وكبسوا على دورها وفتشوها تفتيشًا عظيمًا وقد وشى بعض الناس إلى السلطان بأن جاني بك الصوفي في دار بها فلم يقعوا له على خبر‏.‏

وقبضوا على القاضي فخر الدين ماجد بن المزوق الذي كان ولي كتابة السر ونظر الجيش في دولة الملك الناصر فرج وأحضروه بين يدي السلطان فسأله عن الأمير جاني بك الصوفي وحلف له إن دله على مكانه لا يمسه بسوء‏.‏

فحلف فخر الدين المذكور أنه لا يعرف مكانه ولا وقع بصره عليه من يوم أمسك وحبس فلم يحمله السلطان على الصدق لمصاهرة كانت بينه وبين جاني بك الصوفي وصحبة قديمة وأمر به فضرب بين يديه بالمقارع وأمر بنفيه‏.‏

ثم نودي من الغد أن لايسكن أحذ بالجودرية لما ثبت عند السلطان أن جاني بك الصوفي مختف بها‏.‏

والظاهر أن الذي كان ثبت عند الأشرف أن جاني بك الصوفي كان مختفيًا بها كان على حقيقته فيما بلغنا بعد موت الملك الأشرف غير أن الستار ستره وحماه فلم يعثروا عليه حتى قيل إنه كان بالدار المهجوم عليها ولم ينهض للهروب فالتف بحصيرة بها وكل من دخل الدار رأى الحصيرة المذكورة فلم يجدها أحد بيده لتعلم أن الله على كل شيء قدير‏.‏

ولما نودي أن لا يسكن أحد بالجودرية انتقل منها جماعة كبيرة واستمرت خالية زمانًا طويلًا هذا والسلطان في كل قليل يقبض على جماعة من المماليك السلطانية ويعاقبهم ليقروا على جاني بك الصوفي فلم يقع له عبر خبر‏.‏

كل ذلك والسلطان في شغل بتجهيز المجاهدين لغزو قبرس‏.‏

وورد عليه في يوم السبت سابع عشرين جمادى الأولى رسول صاحب إستانبول وهي القسطنطينية بهدية وشفع في أهل قبرس أن لا يغزوا فلم يلتفت السلطان إلى شفاعته وأخذ فيما هو فيه من تجهيز العساكر‏.‏

ثم في يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الآخرة من سنة تسع وعشرين المذكورة قدم من عساكر البلاد الشامية عدة كبيرة من الأمراء والمماليك والعشير وطائفة كبيرة من المطوعة ليسيروا إلى الجهاد فأنزلوا بالميدان الكبير‏.‏

وفيه خلع السلطان على قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز قاضي قضاة الحنابلة بدمشق زمن المؤيد شيخ باستقراره قاضي قضاة الحنابلة بديار مصر عوضًا عن قاضي القضاة محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي بحكم صرفه عنها‏.‏

وكان عزل قاضي القضاة محب الدين لسوء سيرة أخيه وابنه‏.‏

ثم في ثالث عشرين جمادى الآخرة جلس السلطان بالحوش من قلعة الجبل لعرض المجاهدين وأنفق فيهم مالًا كبيرًا فكان يومًا من أجل الأيام وأحسنها لما وقع فيه من بذل السطان الأموال على من تعين للجهاد وعلى عدم التفات المجاهدين لأخذ المال بل كان الشخص إذا وقف في مجلس السلطان ينظر رؤوس النوب تتهارب من المماليك السلطانية الذين يريدون أخذ الدستور من السلطان للتوجه إلى الجهاد والسلطان يأمرهم بعدم السفر ويعتذر أنه لم تبق مراكب تحملهم وهم يتساعون في ذلك مرة بعد أخرى وربما تكرر وقوف بعضهم الأربع مرات والخمسة وأيضًا من عظم ازدحام الناس على كتاب المماليك ليكتبوهم في جملة المجاهدين في المراكب المعينة حتى إنه سافر في هذه الغزوة عدة من أعيان الفقهاء‏.‏

ولما أن صار السلطان لا ينعم لأحد بالتوجه بعد أن استكفت العساكر سافر جماعة من غير دستور وأعجب من هذا أنه كان الرجل ينظر في وجه المسافر للجهاد يعرفه قبل أن يسأله لما بوجهه من السرور والبشر الظاهر بفرحه للسفر وبعكس ذلك فيمن لم يعين للجهاد هذا مع كثرة من تعين للسفر من المماليك السلطانية وغيرهم‏.‏

وما أرى هذا إلا أن الله تعالى قد شرح صدورهم للجهاد وحببهم في الغزو وقتال العدو ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا ولم أنظر ذلك في غزوة من الغزوات قبلها ولا بعدها‏.‏

انتهى‏.‏

ثم في يوم الخميس أول شهر رجب أدير المحمل بالقاهرة ومصر على العادة في كل سنة وعجل عن وقته لسفر المجاهدين للغزاة‏.‏

ثم في يوم الجمعة ثاني شهر رجب من سنة تسع وعشرين المذكورة خرجت المجاهدون من القاهرة وسافروا من ساحل بولاق إلى جهة الإسكندرية ودمياط ومقدمو العساكر جماعة كبيرة من أمراء الألوف وأمراء الطبلخانات وأمراء العشرات وأعيان الخاصكية وجماعة كبيرة من أعيان أمراء دمشق وغيرها فالذي كان من مقدمي الألوف‏:‏ الأمير إينال الجكمي أمير مجلس وهو مقدم العساكر في المراكب بالبحر ومعه الأمير قرامراد خجا الشعباني أمير جاندار وأحد مقدمي الألوف وعدة من الأمراء والمماليك السلطانية وغيرهم والذي كان مقدم العساكر في البر الأمير تغري بردي المحمودي الناصري رأس نوبة النوب ومعه الأمير حسين بن أحمد المدعو تغري برمش نائب القلعة كان وهو يوم ذاك أحد مقدمي الألوف فهؤلاء الأربعة من أمراء الألوف‏.‏

والذي كان من أمراء الطبلخانات الأمير قانصوه النوروزي والأمير يشبك السودوني المشد الذي صار أتابك في دولة الملك الظاهر جقمق والأمير إينال العلائي ثالث رأس نوبة أعني عن السلطان الملك الأشرف إينال سلطان زماننا وأمير آخر لا يحضرني الأن اسمه‏.‏

والذي توجه من أمراء العشرات فعدة كبيرة‏.‏

والذي كان من أمراء دمشق‏:‏ الأمير طوغان السيفي تغري بردي أحد مقدمي الألوف بدمشق وهو دوادار الوالد رحمه الله ومملوكه وجماعة كبيرة أخر دونه في الرتبة من أمراء دمشق وخرجت الأمراء في هذا اليوم وتبعهم المجاهدون في السفر في النيل أرسالًا حتى كان آخرهم سفرًا في يوم السبت حادي عشر شهر رجب المذكور‏.‏

وكان ليوم خروج المجاهدين بساحل بولاق نهار يجل عن الوصف تجمع الناس فيه للفرجة على المسافرين من الأقطار والبلاد والنواحي حتى صار ساحل بولاق لايستطيع الرجل أن يمر فيه لحاجته إلا بعد تعب ومشقة زائدة‏.‏

وعدى الناس إلى البر الغربي ببر منبابة وبولاق التكرور ونصبوا بها الخيم والأخصاص‏.‏

هذا وقد انتشر البحر بالمراكب التي فيها المتنزهون وأما بيوت بولاق فلم يقدر على بيت منها إلا من يكون له جاه عريض أو مال كبير وتقضى للناس بها أيام سرور وفرح وابتهال إلى الله تعالى بنصر المسلمين وعودهم بالسلامة والغنيمة‏.‏

وسار الجميع إلى ثغر دمياط وثغر الإسكندرية وتهيأوا لسفر والسلطان متشوف لما يرد عليه وبينما هم في ذلك ورد عليه الخبر في يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر رجب المذكور بأن الغزاة مروا في طريقهم إلى رشيد وأقلعوا من هناك يوم رابع عشرينه وساروا إلى أن كان يوم الاثنين انكسر منهم نحو أربعة مراكب غرق فيها نحو العشرة أنفس وكانوا بالقرب من ساحل الإسلام بثغور أعمال مصر‏.‏

ولما بلغ السلطان ذلك انزعج غاية الانزعاج حتى إنه كاد يهلك وبكى بكاء كثيرًا وصار في قلق عظيم بحيث إن القلعة ضاقت عليه وعزم على عدم سفر الغزاة المذكورين‏.‏

ثم قوي عنده أنه يرسل الأمير جرباش الكريمي قاشق حاجب الحجاب لكشف خبرهم ولعمل مصالحهم وللمشورة مع الأمراء في أمر السفر‏.‏

وخرج الأمير جرباش المذكور مسافرًا إليهم وترك السلطان في أمر مريج وكذلك جميع الناس إلا أنا تباشرت بالنصر من يومئذ وقلت‏:‏ ما بعد الكسر إلا الجبر وكذا وقع فيما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وسار الأمير جرباش إلى العسكر فوجد الذي حصل بالمراكب المذكورة ترميمه سهل وقد شرعت الصناع في إصلاحه فتشاور مع الأمراء فأجمع الجميع على السفر فعند ذلك جمع الأمير جرباش الصناع وأصلح جميع ما كان بالمراكب من الخلل إلى أن أمرهم فركبوا وساروا على بركة الله وعونه وعاد الأمير جرباش وأخبر السلطان بذلك فسكن ما كان به‏.‏

وكان قبل قدوم خرباش أو بعد قدومه في يوم الثلاثاء خامس شعبان ورد الخبر على السلطان بأن طائفة من غزاة المسلمين من العسكر السلطاني لما ساروا من رشيد إلى الإسكندرية صدفوا في مسيرهم أربع قطع من مراكب الفرنج وهي قاصدة ثغر الإسكندرية فكتب المسلمون لمن في رشيد من بقية الغزاة بسرعة إلحاقهم ليكونوا يدًا واحدة على قتال الفرنج المذكورين‏.‏

وتقاربوا من مراكب الفرنج وتراموا معهم يومهم كله بالنشاب إلى الليل وباتوا يتمارسون إلى الصباح فاقتتلوا أيضًا باكر النهار وبينما هم في القتال وصل بقية الغزاة من رشيد فلما رآهم الفرنج ولوا الأدبار بعدما استشهد من المسلمين عشر نفر‏.‏

وساروا حتى اجتمعوا بمن تقدمهم من الغزاة من ثغر الإسكندرية وسافر الجميع معًا يريدون قبرس في يوم الأربعاء العشرين من شعبان إلى أن وصلوا إلى قلعة اللمسون في أخريات شعبان المقدم ذكره فبلغهم أن صاحب جزيرة قبرس قد استعد لقتالهم وجمع جموعًا كثيرة وأنه أقام بمدينة الأفقسية وهي مدينة قبرس وعزم على لقاء المسلمين فأرسلوا بهذا الخبر إلى السلطان ثم انقطعت أخبارهم عن السلطان إلى مايأتي ذكره‏.‏

وفي يوم السبت رابع عشر شهر رمضان خلع السلطان على الأمير يشبك الساقي الأعرج أمير سلاح باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن الأمير قجق العيساوي بحكم وفاته وأنعم بإقطاع يشبك الأعرج المذكور على الأمير قرقماس الشعباني الناصري القادم من مكة قبل تاريخه وأنعم بإقطاع قرقماس المذكور على الأمير بردبك السيفي يشبك بن أزدمر الأمير آخور الثاني وصار من جملة مقدمي الألوف وأنعم بإقطاع بردبك على الأمير يشبك أخي السلطان الملك الأشرف برسباي القادم قبل تاريخه بمدة يسيرة من بلاد الجاركس والإقطاع إمرة طبلخاناه وخلع على سودون ميق رأس نوبة باستقراره أمير آخور ثانيًا عوضًا عن بردبك المقدم ذكره‏.‏

غزوة قبرس على حدتها ولما كان يوم الاثنين ثالث عشرين شهر رمضان ورد الخبر على السلطان بأخذ مدينة قبرس وأسر ملكها جينوس بن جاك فدقت البشائر بالقلعة لهذا الفتح ثلاثة أيام‏.‏

وكان من خبر ذلك أن الغزاة لما ساروا من الثغور المذكورة إلى جهة قبرس وصلوا إلى مدينة اللمسون مجتمعين ومتفرقين فبلغهم من أهل اللمسون أن متملك قبرس جاءه نجدة كبيرة من ملوك الفرنج وأنه استعد لقتالهم كما تقدم ذكره‏.‏

ولما وصلوا إلى اللمسون نازلوا قلعتها وقاتلوا من بها حتى أخذوها عنوة في يوم الأربعاء سادس عشرين شعبان ونهبوها وسبوا أهلها وقتلوا جماعة كبيرة ممن كان بها من الفرنج ثم هدموها عن آخرها وساروا منها في يوم الأحد أول شهر رمضان من سنة تسع وعشرين المقدم ذكرها بعد أن أقاموا عليها نحو ستة أيام وساروا فرقتين‏:‏ فرقة في البر وعليهم الأمير تغري بردي المحمودي والأمير حسين بن أحمد المدعو تغري برمش أحد مقدمي الألوف ومن انضاف إليهم من أمراء الطبلخانات والعشرات والعساكر المصرية والشامية من الخيالة والرجالة وفرقة في البحر ومقدمهم الأمير إينال الجكمي أمير مجلس والأمير قرامراد خجا الشعباني أحد مقدمي الألوف بمن انضاف إليهم من العساكر المصرية والشامية‏.‏

وكان سبب مسير هؤلاء في البحر مخافة أن يطرق الفرنج المراكب من البحر ويأخذوها ويصير المسلمون ببلادهم يقاتلونهم على هيئتهم وكان ذلك من أكبر المصالح‏.‏

ثم سار الذين فى البر متفرقين حتى صاروا بين اللمسون والملاحة وهم من غير تعبئة لقتال بل على صفة السفار غير أن على بعضهم السلاح وأكثرهم بلا سلاح لشدة الحر وصار كل واحد من القوم يطلب قدامًا من غير أن يتربص أحدهم لآخر وفي ظنهم أن صاحب قبرس لا يلقاهم إلا خارج قبرس‏.‏

وتأخر الأمراء ساقة العسكر كما هي عادة مقدمي العساكر والناس تجد في السير إلى أن يقاربوا قبرس ثم يقفوا هناك يريدون خيلهم إلى أن تكتمل العساكر وتتهيأ الأطلاب للقتال ثم يسيرون جملة واحدة بعد التعبئة والمصاففة‏.‏

وبينما هم في السير إذا هم بمتملك قبرس بجيوشه وعساكره ومن انضاف إليه من ملوك الفرنج وغيرها وقد ملأت الفضاء وكان الذين وافاهم صاحب قبرس من المسلمين الذين سبقوا طائفة قليلة جدًا وأكثرهم خيالة من أعيان المماليك السلطانية‏.‏

فعندما وقع العين على العين لم يتمالك المسلمون أن يصبروا لمن خلفهم حتى يصيروا جملة واحدة بل انتهزوا الفرصة وتعرضوا للشهادة وقال بعضهم لبعض‏:‏ هذه الغنيمة‏.‏

ثم حركوا خيولهم وقصدوا القوم بقلب صادق وقد احتسبوا نفوسهم في سبيل الله وحملوا على الفرنج حملة عظيمة وصاحوا‏:‏ الله أكبر وقاتلوهم أشد قتال وأردفهم بعض جماعة وتخلف عنهم أخر منهم رجل من أكابر الخاصكية أقام يستظل تحت شجرة كانت هناك‏.‏

وتقاتل المسلمون مع الفرنج قتالًا شديدًا قتل فيه السيفي تغري بردي المؤيدي الخازندار وكان من محاسن الدنيا لم تر عيني أكمل منه في أبناء جنسه والسيفي قطلوبغا المؤيدي البهلوان وكان رأسًا في الصراع ومن مقولة تغري بردي المقدم ذكره في الشجاعة والفروسية والسيفي إينال طاز البهلوان والسيفي نانق اليشبكي وهؤلاء الأربعة من الأعيان والأبطال المعدودة عوض الله شبابهم الجنة بمنه وكرمه ثم قتل من المسلمين جماعة أخر وهم مع قلتهم ويسير عددهم في ثبات إلى أن نصر الله الإسلام ووقع على الكفرة الخذلان وانكسروا وأسر متملك قبرس مع كثرة جموعه وعظم عساكره التي لا تحصر وقلة عسكر المسلمين حتى إن الذي كان حضر أوائل الوقعة أقل من سبعين نفسًا قبل أن يصل إليهم الأمير إينال العلائي الناصري أحد أمراء الطبلخانات ورأسه نوبة ثالث وهو الملك الأشرف إينال والأمير تغري برمش ثم تتابع القوم طائفة بعد طائفة كل ذلك بعد أن انكسرت الفرنج وأسر صاحب قبرس وقتل من قتل من المسلمين‏.‏

ولما ترادفت عساكر الإسلام ركبوا أقفية الفرنج ووضعوا في السيف وأكثروا من القتل والأسر وانهزم من بقي من الفرنج إلى مدينة قبر الأفقسية‏.‏

ثم وجد المسلمون مع الفرنج طائفة من التركمان‏.‏

المسلمين قد أمد الفرنج بهم علي بك بن قرمان عليه من الله ما يستحقه فقتل المسلمون كثيرًا منهم‏.‏

واجتمع عساكر البر والبحر من المسلمين في الملاحة يوم الاثنين ثاني شهر رمضان وتسلم الأمير تغري بردي المحمودي صاحب قبرس كل ذلك والمسلمون يقتلون ويأسرون وينبهون حتى امتلأت أيديهم وتغلبوا عن حمل الغنائم‏.‏

وأما القتلى من الفرنج فلا تحصر ويستحى من ذكرها كثرة‏.‏

حدثني بعض مماليك الوالد ممن باشر الواقعة من أولها إلى آخرها وجماعة كبيرة من الأصحاب الثقات قالوا‏:‏ كان موضع الواقعة أزيد من الفي قتيل من قتلى الفرنج هذا الموضع الذي كان فيه القتال وأما الذي قتل من الفرنج بالضياع والأماكن وبطريق قبرس فلا حد له ولا حساب فإنه استمر القتل فيهم أيامًا‏.‏

واستمروا الملاحة إلى يوم الخميس خامس شهر رمضان فساروا منها يريدون الأفقسية مدينة قبرس‏.‏

ولما ساروا وافاهم الخبر بعد أن تقدم منهم جماعة كبيرة من المطوعة والمماليك السلطانية إلى مدينة قبرس بأن أربعة عشر مركبًا من مراكب الفرنج مشحونة بالسلاح والمقاتلة أتت المراكب لقتال المسلمين منها سبعة أغربة وسبعة مربعة القلاع فلاقاهم الأمير إينال الجكمي أمير مجلس والأمير قرامرادخجا الشعباني والأمير طوغان السيفي تغري بردي أحد مقدمي دمشق والأمير جاني بك رأس نوبة السيفي يلبغا الناصري المعروف بالثور وبمن انضاف إليهم من المطوعة وغيرهم وهؤلاء الأمراء الذين كانوا مقدمي العساكر في البحر بالمراكب واقتتلوا مع الفرنج المذكورين أشد قتال حتى هزموهم وأخذوا منهم مركبًا مربعًا من مراكب الفرنج بعد أن قتلوا منهم عدة كبيرة تقارب ما ذكرنا ممن قتل بمكان الوقعة الأولى وولت الفرنج الأدبار‏.‏

واستمر الذي توجه من الغزاة إلى الأفقسية من المماليك السلطانية وغيرهم يقتلون في طريقهم ويأسرون إلى أن وصلوا إلى المدينة ودخلوا قصر الملك ونهبوه‏.‏

ثم عادوا ولم يحرقوا بمدينة قبرس إلا مواضع يسيرة ولم يدخل المدينة أحد من أعيان العسكر وغالب الذي دخلها من المماليك السلطانية والمطوعة وكان دخولهم وإقامتهم بها وعودهم منها في يومين وليلة واحدة‏.‏

ثم أقام جميع الغزاة بالملاحة وأراحوا بها أبدانهم سبعة أيام وهم يقيمون فيها شعائر الإسلام من الأذان والصلاة والتسبيح ولله الحمد على هذه المنة بهذا الفتح العظيم الذي لم يقع مثله في الإسلام من يوم غزاهم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في سنة نيف وعشرين من ثم ركبت الغزاة المراكب عائدين إلى جهة الديار المصرية ومعهم الأسرى والغنائم ومن جملتها متملك قبرس في يوم الخميس ثاني عشر رمضان بعد أن بعث أهل الماغوصة يطلبون الأمان‏.‏

هذا ما كان من أمرهم‏.‏

انتهى‏.‏

وجزيرة قبرس تسمى باللغة الرومية شبرا والبحر يحيط بها مائتي ميل والميل أربعة آلاف ذراع والذراع أربعة وعشرون إصبعًا والإصبع ست شعيرات مضموم بعضها إلى بعض والفرسخ بهذا الميل ثلاثة أميال والبريد بهذا الفرسخ أربعة فراسخ‏.‏

وجزيرة قبرس من الإقليم الرابع من الأقاليم السبعة وسلطانها يقال له أراد شبرا‏:‏ أي سلطان الجزيرة وقبرس مدينة بالجزيرة تسمى الأفقسية‏.‏

ومسيرة جزيرة قبرس سبعة أيام‏.‏

وبالجزيرة المذكورة اثنا عشر ألف قرية كبارًا وصغارًا وبمدنها وقراها من الكنائس والديارات والقلالي والصوامع كثير‏.‏

وبها البساتين المشتملة على الفواكه المختلفة وبها الرياحين العطرة كالخزام والياسمين والورد والسوسن والنرجس والريحان والنسرين والأقحوان وشقائق النعمان وغير ذلك‏.‏

وبمدن الجزيرة المذكورة الأسواق والخانات والحمامات والمباني العظيمة‏.‏

انتهى‏.‏

وأما أمر السلطان الملك الأشرف برسباي فإنه لما بلغه خبر أخذ قبرس في يوم الاثنين ثالث عشرين رمضان حسبما تقدم ذكره كاد أن يطير فرحًا‏.‏

ولقد رأيته وهو يبكي من شدة الفرح وبكى الناس لبكائه وصار يكثر من الحمد والشكر لله‏.‏

ودقت البشائر بقلعة الجبل وبسائر مدن الإسلام لما بلغهم ذلك وارتخت القاهرة وماجت الناس من كثرة السرور الذي هجم عليهم وقرىء الكتاب الوارد بهذا النصر على الناس بالمدرسة الأشرفية بخط العنبريين بالقاهرة حتى سمعه كل من قصد سماعه وحضر‏.‏

وقالت الشعراء في هذا الفتح عدة قصائد من ذلك القصيدة العظيمة التي نظمها الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن الخراط أحد أعيان موقعي الدست بالديار المصرية وأنشدها بين يدي السلطان بحضرة أرباب الدولة والقصيدة ثلاثة وسبعون بيتًا أولها‏:‏ الكامل بشراك يا ملك المليك الأشرفي بفتوح قبرس بالحسام المشرفي فتح بشهر الصوم تم له فيا لك أشرف في أشرف في أشرف فتح تفتحت السموات العلى من أجله بالنصر واللطف الخفي والله حف جنوده بملائك عاداتها التأييد وهو بها حفي ومنها‏:‏ الأشرف السلطان أشرف مالك لولاه أنفس ملكه لم تشرف حامي حمى الحرمين بيت الله وال - - قبر الشريف لزائر ومطوف وكلها على هذا النسق‏.‏

انتهى‏.‏

قلت‏:‏ وكل ذلك والنصارى تكذب هذا الخبر وتستغربه من أسر متملك قبرس وهزيمته على هذا الوجه لأن أمر هذا النصر في غاية من العجب من وجوه عديدة‏:‏ أولها‏:‏ قلة من قاتل الفرنج من المسلمين فإنهم كانوا في غاية من القلة بحيث إن العقل لا يقبل ذلك إلا بعد وقوعه في هذه المرة‏.‏

وثانيهما‏:‏ أنه لم تتعب عساكر الإسلام ولا وقع مصاف‏.‏

وثالثها‏:‏ أنه كان يمكن هزيمة صاحب قبرس من المسلمين بعد أيام كثيرة من وجوه عديدة يطول الشرح في ذكرها لا تخفى على من له ذوق‏.‏

ورابعها‏:‏ أنه كان يمكن هزيمة الفرنج ولا يمكن مسك الملك وأسره أيضًا من وجوه عديدة‏.‏

وخامسها‏:‏ أن غالب العسكر إذا حصل لهم هزيمة يتحابون ويرجعون غير مرة على من هزمهم لا سيما كثرة عساكر الفرنج وقلة من حضر الوقعة من عساكر المسلمين في هذه المرة فكان على هذا يمكنهم الكر على المسلمين بعد هزيمتهم غير مرة‏.‏

وسادسها‏:‏ أن الوقعة والقتال والهزيمة والقبض على الملك وتشتت شمل الفرنج والاستيلاء على وما أرى إلا أن الله سبحانه وتعالى أعز الإسلام وأهله وخذل الكفر وأهله بهذا النصر العظيم الذي لم يسمع بمثله في سالف الأعصار ولا فرح بمثله ملك من ملوك الترك‏.‏

ولقد صار للملك الأشرف برسباي بهذا الفتح ميزة على جميع ملوك الترك إلى يوم القيامه‏.‏

اللهم لا مانع لما أعطيت‏.‏

ولما بلغ الملك عود الغزاة المذكورين إلى جهة الديار المصرية رسم فنودي بالقاهرة ومصر بالزينة ثم ندب السلطان جماعة كبيرة عن المماليك السلطانية بالتوجه إلى الثغور لحفظ مراكب الغزاة بعد خروجهم منها خوفًا من أن يطرقهم طارق من الفرنج مما يأتي صاحب قبرس من نجدات الفرنج وكان هذا من أكبر المصالح‏.‏

ثم رسم السلطان لهم أن يأخذوا جميع المراكب من ثغر دمياط ويأتوا بها إلى ثغر الإسكندرية لتحفظ بها وسبب ذلك أن الغزلة المذكورين كان منهم من وصل إلى ثغر الإسكندرية ومنهم من وصل الى ثغر دمياط ومنهم من وصل إلى الطينة لكثرة المراكب ولاختلاف الأرياح‏.‏

وبينما السلطان في انتظار المجاهدين قدم عليه السيد الشريف بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة منها وقد استدير بعد موت أبيه فأكرمه السلطان وخلع عليه بإمرة مكة على أنه يقوم بما تأخر على أبيه من الذهب وهو مبلغ خمسة وعشرين ألف دينار فإن أباه الشريف حسن بن عجلان كان قد حمل من الثلاثين ألف دينار التي التزم بها قبل موته خمسة آلاف دينار‏.‏

ثم التزم بركات أيضًا بحمل عشرة آلاف دينار في كل سنة وأن لا يتعرض السلطان لما يؤخذ من بندر جدة من عشور بضائع التجار الواصلة من الهند وغيره وأن يكون ذلك جميعه لبركات المذكور‏.‏

انتهى‏.‏

ولما كان يوم عيد الفطر ابتدأ دخول الغزاة إلى ساحل بولاق أرسالًا كما خرجوا منها‏.‏

ووافق في هذه الأيام وفاء النيل ستة عشر ذراعًا فتضاعف مسرات الناس من كل جهة‏.‏

واستمر دخولهم في كل يوم إلى ساحل بولاق إلى أن تكامل في يوم الأحد سابع شوال ونزلوا بالميدان الكبير بالقرب من موردة الجبس‏.‏

وأصبحوا من الغد في يوم الاثنين ثامن شوال وهو يوم فطر السلطان فإنه كان يصوم الستة أيام من شوال طلعوا إلى القلعة على كيفية ما يذكر وهم جميع الأمراء والأعيان من المجاهدين والأسرى والغنائم بين أيديهم ومتملك قبرس الملك جينوس بن جاك أمامهم وهو منكس الأعلام وقد اجتمع لرؤيتهم خلائق لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى حتى أتت أهل القرى والبلدان من الأرياف للفرجة‏.‏

وركبت الأمراء من الميدان ومعهم غالب الغزاة وساروا من أرض اللوق حتى خرجوا من المقس ودخلوا من باب القنطرة وشقوا القاهرة إلى باب زويلة وتوجهوا من الصليبة من تحت الخانقاه الشيخونية من سويقة منعم إلى الرميلة والخلق في طول هذه المواضع تزدحم بحيث إن الرجل لا يسمع كلام رفيقه من كثرة زغاريد النساء التي صفت على حوانيت القاهرة بالشوارع من غير أن يندبهم أحد لذلك والإعلان بالتكبير والتهليل ومن عظم التهاني‏.‏

هذا مع تخليق الزعفران والزينة المخترعة بسائر شوارع القاهرة حتى في الأزقة‏.‏

وفي الجملة كان هذا اليوم من الأيام التي لم نرها قبلها ولا سمعنا بمثلها‏.‏

وساروا على هذه الصفة إلى أن طلعوا إلى القلعة من باب المدرج وهم مع ذلك في ترتيب في مشيهم يذهب العقل وهو أنهم قدموا أولًا الفرسان من الغزاة أمام الجميع ومن خلف الفرسان طوائف الرجالة من المطوعة وعشران البلاد الشامية وعربان البلاد وزعر القاهرة ومن خلف هؤلاء الجميع الغنائم محمولة على رؤوس الحمالين وعلى ظهور الجمال والخيول والبغال والحمير والتي كانت على الرؤوس فيها تاج الملك وأعلامه منكسة وخيله تقاد من وراء الغنائم ثم من بعدهم الأسرى من رجال الفرنج ثم من بعدهم السبي من النساء والصغار وهم أزيد من ألف أسير تقريبًا سوى ما ذهب في البلاد والقرى مع المطوعة وغيرهم من غير إذن مقدم العساكر وهو أيضًا يقارب ما ذكر ومن وراء الأسرى جينوس ملك قبرس وهو راكب على بغل بقيد حديد وأركب معه اثنان من خواصه وعن يمينه الأمير إينال الجكمي أمير مجلس وأمامه قرا مراد خجا الشعباني أحد مقدمي الألوف أيضًا وعن يسار الأمير تغري بردي المحمودي رأس نوبة النوب وأمامه الأمير حسين المدعو تغري برمش المحمودي رأس نوبة ترب وأمامه الأمير حسين المدعو تغري برمش أحد مقدمي الآلوف أيضًا وأمامهم أمراء الطبلخانات والعشرات على مراتبهم وأمراء البلاد الشامية‏.‏

وساروا على هذه الصفة حتى طلعوا إلى القلعة فأنزل جينوس عن البغل وكشف رأسه عند باب المدرج وقد احتاطه الحجاب وأمراء جاندار وقد صفت العساكر الإسلامية من باب المدرج إلى داخل الحوش السلطاني‏.‏

فلما دخل جينوس من باب المدرج قبل الأرض ثم قام ومشى ومعه الأمراء من الغزاة والحجاب ورؤوس النوب وهو يرسف في قيوده على مهل لكثرة الزحام‏.‏